الأسئلة الحديثية

هل التدليس جرح؟

هل التدليس جرح؟

التدليس إذا كان الراوي ثقة في نفسه، فلا يعدّ التدليس فيه جرحاً، إنَّما يكون ريبة منه تجعلنا نتوقف في حديثه إذا لم يصرح بالسماع، لكن الراوي الذي أكَثَرُ رواياتِه مدلِّسة، ولا يصرِّح بالسماع([1]) عن مشايخه، فلم يظهر للعلماء مَنْ هذا الضعيف، حتى يلصقوا به عهدة النكارة؟ فلما لم يتيسر هذا، وكثر هذا في حديثه، ألصقوا العهدة به، وحملوه نكارة هذه الأحاديث، وضعَّفُوه كما في أبي جناب يحيى بن أبي حية الكلبي، فقد قال الحافظ ابن حجر: ضعفوه لكثرة تدليسه([2])، وهناك من أطلق فيه الجرح، ولهذا محل آخر.

وهناك رجل آخر لا أذكره الآن أيضاً ضُعِّف بكثرة روايته الأحاديث المدلسة([3])، أمّا الرجل الثقة إذا كان يصرح بالسماع عن مشايخه، ويروي أحاديث قوية مستقيمة، ثم بعد ذلك يعنعن عن مشايخه، ويروي أحاديث فيها ضعف، علمنا أنَّه أتي من قبل التدليس، كما صرّح بذلك ابن حبّان في ترجمة بقية في كتاب «المجروحين» لما اعتبر حديثه، وقارنه بالراويات الأخرى للثقات، وكما قال الإمام أحمد أيضاً في بقية، والله أعلم([4]).



([1]) قال أبو الحسن بن القطان: «إذا صرح المدلس قُبل بلا خلاف وإذا لم يصرِّح فقد قبله قوم ما لم يتبين في حديث بعينه أنّه لم يسمعه، وردّ آخرون ما لم يتبيّن أنّه سمعه، «النكت» (2/625) قال العلائي: «والصحيح الذي عليه جمهور أئمة الحديث والفقه والأصول الاحتجاج بما رواه المدلس الثقة مما صرّح فيه بالسماع دون ما رواه بلفظ محتمل» «جامع التحصيل» (ص:98).

قلت: وعلى هذا فإذا صرّح المدلس بالاتصال قبل منه وإلا فلا، وهذا هو القول الصحيح كما ذكر الخطيب البغدادي رحمه الله في «كفايته» (ص:515)، وأمّا قول أبي الحسن بن القطان ونفيه للخلاف في هذه المسألة فمعترض عليه وذلك لوجود المخالف والصواب أنّه قول الأ:ثرين كما سبق بيانه والله أعلم.

وقد ذكر العلامة المعلمي رحمه الله تعالى في مواضع كثيرة من «تنكيله» أنَّ التدليس ليس بجرح في الراوي فمن ذلك ما جاء في (ص:311) قال رحمه الله وقد علمنا أنّ قول من صحب أنساً: «قال أنس…» موهم بل مفهم إفهاماً تقوم به الحجة أنّه سمع ذلك من أنس إلا أن يكون مدلساً معروفاً بالتدليس فإذا كان معروفاً بالتدليس لم يكن ظاهر حاله أن لا يقوم: «قال أنس…» إلا فيما سمعه من أنس وبذلك زال الإفهام والإبهام فزال الكذب، فهكذا… إلخ اهـ وفي (ص:602) قال رحمه الله والمدلس إنّما يسلم من الجرح بالتدليس إذا كان قد عرف عنه أنّه يدلس فإنّ ذلك يكون قرينة تخلصه من أن يكون تدليسه كذباً… إلخ اهـ.

وانظر كذلك كلام الحافظ ابن حجر رحمه الله في «النكت» على ابن الصلاح (2/632-634)، والنزهة (ص:113) والله أعلم.

([2]) كذا في «التقريب» للحافظ ابن حجر (ص:589) وفي «التهذيب» له قال: قال فيه أبو زرعة صدوق غير أ،ّه كان يدلس، وقال ابن معين: ليس به بأس إلا أنّه كان يدلّس، وقال ابن نمير: صدوق كان صاحب تدليس أفسد حديثه بالتدليس، كان يحدث بما لم يسمع، وقال النسائي: ليس بالثقة يدلس… إلخ (11/202) كل هذا يدل على أنّ أبا جناب لم يكن به بأس، إلا أنّه كان يدلس على الثقات ما سمع من الضعفاء، بالتزقت به المناكير التي يرويها عن المشاهير، فوهّاه يحيى بن سعيد القطّان، وحمل عليه أحمد حملاً شديداً، كما نصّ على ذلك ابن حبان رحمه الله في «المجروحين» (3/111).

([3]) وممن ضعف أيضاً لكثرة تدليسه عطية بن سعد بن جنادة العوفي قال فيه الحافظ ابن حجر رحمه الله في «نتائج الأفكار» (1/271): ضعف عطيّة إنّما جاء من قبل التشيع ومن قبل التدليس وهو في نفسه صدوق… إلخ.

وكذا أبو سعد البقال، قال فيه الحافظ في «المصدر السابق» (2/352): نعم ضعّفه الجمهور لأنّه كان يدلّس وتغير بآخره. اهـ.

([4]) جاء في «المجروحين» لابن حبان (1/200-201)، قال أحمد بن حنبل: توهّمت أنَّ بقية لا يحدّث المناكير إلا عن المجاهيل، فإذا هو يحدث المناكير عن المشاهير، فعلمت من أين أتي، قال ابن حبان معقِباً على ذلك: لم يَسَبْره أبو عبدالله؛ وإنّما نظر إلى أحاديث موضوعة رويت عنه عن أقوام ثقات فأنكرها، ولعمري إنّه موضع الإنكار، وفي دون هذا ما يُسقط عدالة الإنسان في الحديث، ولقد دخلت حمص وأكثر همي شأن بقية فتتبّعت حديثه، وكتبت النسخ على الوجه، وتتبّعت ما لم أجد بعلو من رواية القدماء عنه، فرأيته ثقة مأموناً، ولكنّه كان مدلّساً سمع من عُبيدالله بن عمر وشعبة، ومالك أحاديث يسيرة مستقيمة ثم سمع عن أقوام كذابين ضعفاء متروكين عن عبيدالله بن عمر، وشعبة ومالك مثل المجاشع بن عمرو والسري بن عبدالحميد وعمر بن موسى المثيمي، وأشباههم وأقوام لا يعرفون إلا بالكنى، فروى عن أولئك الثقات الذين رآهم بالتدليس ما سمع من هؤلاء الضعفاء وكان يقول: قال عبيدالله بن عمر عن نافع، وقال مالك عن نافع كذا فحملوا عن بقية عن عبيدالله وبقية عن مالك وأسقط الواهي بينهما، فالتزق الموضوع ببقية وتخلص الواضع من الوسط، وإنّما امتحن بقية بتلاميذ له كانوا يسقطون الضعفاء من حديثه ويسوونه فالتزق. اهـ.